إنجاز : إلياس أبو الرجاء
الآراء الواردة في هذا المحتوى لا تمثل بالضرورة وجهة نظر جمعية مبادرات مواطنة-بوصلة- وشركائها في مشروع SaMMa
أكثر من مجرد هزة أرضية
الأكيد أن زلزال الثامن من شتنبر خلف خسائر بشرية ومادية جسيمة، والأكيد أيضا أن حجم الدمار كان مؤلما. هكذا هي حكاية زلزال الحوز في ذهن كل من تتبع الحدث من خلال وسائل الإعلام بمختلف أصنافها.
عدسات الكاميرات نقلت لنا مشاهد مروعة من عين المكان، جدران لم يبق منها سوى ما كانت تحمله من تفاصيل، جثث عالقة تحت الأنقاض، وأطفال يبكون على دماهم التي طالها الخراب. ميكروفونات الصحفيين نقلت لنا كذلك أصوات الحزن والألم والمعاناة ممن فقدوا كل شيء حرفيا. لكن ماذا عمن ذاق طعم المعاناة مضاعفا، ولا يستطيع البوح بها؟
بعدما لم يبق من منازلهم/ن سوى أثرها، وجد متضررو/ات الزلزال أنفسهم/ن أمام واقع مرير، الواقع الذي جعل من الشارع مصيرهم/ن، ومن خيام إن توفرت مكانا لقضاء لياليهم/ن، أما المكان الذي يقضون فيه حاجاتهم/ن، فيختلف من مكان إلى آخر، حسب درجة الضرر الذي لحقهم/ن، فمنهم/ن من يختار المشي مئات الأمتار بما يكفي ليكون بعيدا عن أعين إنسانية، ومنهم/ن من حالفه الحظ ولو قليلا، لينعم بمكان أطلق عليه أهل الدوار “مرحاض”، بعدما استعملوا ما جاد به الخراب من بقايا لبنائه.
فجوة عمقها الزلزال
فور نزولنا بإحدى الدواوير المجاورة لمركز أمزميز، الذي لا يبعد سوى عشرات الكلومترات عن بؤرة الزلزال، لن يخطر ببالك أن هذا الدمار خلفه زلزال قوي منذ تسعة أشهر، فرغم محاولة السكان التأقلم مع الوضع وممارسة نشاطاتهم اليومية بشكل عادي، إلا أن رائحة الحزن لا تزال عالقة بالمكان، بل وتظهر بتجليها المادي من خلال الخيام المهترئة، وأثر المنازل التي كانت قبل أكثر من سنة، مكانا حميميا لكل أسرة، وملاذا آمنا لهم، أما اليوم فقد تغير الوضع، وأصبحت تلك البقايا ذكرى سيئة، يتفادى سكانها يوما النظر إليها، خشية استرجاع ذلك الشريط المأساوي.
عمر شاب يبلغ 24 عاما، بيت عائلته تحول إلى مكان تجتمع فيه الكلاب الضالة، بعدما لم يبق من تفاصيله سوى بعض الجدران الصامدة، أما الباقي فلم يعد له أثر كأنه لم يوجد يوما. عمر أكد لنا أن كل شيء تغير بعدما فقد منزل عائلته، حيث يحمد الله أنه لم يفقد أي فرد من عائلته، لكنه صرح لنا أنه فقد خصوصيته، والتي بالنسبة إليه خسارة كبيرة، يقول عمر:” الجميع محشورون معا في هذه الخيام، وبالكاد لديك مساحة للتنفس، ناهيك عن أي خصوصية. لقد كان الأمر صعبًا على الجميع، أريد فقط أن تعود الأمور إلى طبيعتها، عندما نتمكن أخيرًا من الحصول على بعض المساحة، وبعض السلام”.
عمر لم يكن وحيدا في معاناته، بل كل من تبادلنا معه أطراف الحديث بالدوار أكد لنا الأمر، وسرد لنا نوع معاناته من فقدان الخصوصية والإحساس بالحميمية، ولكم أن تتخيلوا كيف سيكون الأمر بالنسبة لنساء وفتيات الدوار، خاصة في بلد يحتل المرتبة 136 من بين 146 دولة في تقرير الفجوة بين الجنسين العالم 2023.
لم يكن من السهل توجيه سؤال حول الحميمية لنساء الدوار، أولا لأن موضوع الحميمية قد يكون من الطابوهات التي يتم الحديث حولها، وثانيا لأن أغلب النساء أميات، لأن جغرافيتهن وأشياء أخرى لم تسمح لهن بشغل طاولة في المدرسة، أما السبب الذي شكل تحديا لنا، هو أن أغلب النساء هنا لسن مستقلات، أي أنهن تحت وصاية إما أزواجهن، أو أباءهن، أو أي أحد من أقرباهن، فلا يحق لك الحديث مع أي منهن إلا بترخيص ممن ذكروا. وجدنا أنفسنا في موقف محرج، فردة فعل أهل الدوار لا يمكن توقعها بعدما نخبرهم بالأمر. فلم يكن لنا إلا أن نسهب الحديث معهم في مختلف المشاكل التي يعانونها، والحكايات التي عاشوها، ولم يخل حديثهم من بعض الطرائف التي يبدو أنها تخفف من جرحهم، كل هذا علنا نجد طريقة سلسة لنفاتحهم في الموضوع.
بعد الأخذ والرد الذي دام لما يزيد عن الساعة، بطريقة أو بأخرى استطعنا الوصول إلى إحدى فتيات الدوار، فتاة في عمر الثانية والعشرين، كانت تدرس في الجامعة بمدينة أخرى، أما الآن فقد تخلت عن دراستها بعدما استعصى على عائلتها تغطية تكاليف إقامتها ودراستها. بابتسامة خجولة تواجه خديجة (اسم مستعار) كل سؤال نطرحه عليها، وتتهرب من الجواب بالحديث بشكل عام عن ضيق الخيام والمرافق الصحية، لكن مع كل إجابة تقدمها، نعلم أن هناك جزءا ثانيا من الجواب عجزت خديجة عن البوح به.
معاناة بلا بوح
ربما ليس من الضروري أن نسمع المعاناة من فم إحداهن لنعرفها، لكن الملاحظة تستطيع أن تخبرك عن أشياء عديدة لا يمكن أن تتحول إلى هزات صوتية، بل تظل إشارات نلتقطها مع كل نظرة نلقيها أو حديث نخوضه. لا تنتظر من إحداهن أن تقول لك إننا نعاني من غياب الفوط الصحي، فرغم أنها تعاني حقا، إلا أنها لا تستطيع التصريح بذلك لأنه “عيب” في نظرها، وفي نظر المجتمع. لن تخبرك أيضا أنها لا تجد راحتها في تقاسم خيمة واحدة مع أفراد ربما لا تعرفهم وأغلبهم رجال، وعن استحيائها من دخول خيمة على شكل مرحاض لقضاء حاجتها، لأنها محاصرة بأعين الذكور.
إن الزلزال بالنسبة لهؤلاء النساء ليس مجرد اهتزاز أرضي دام بضع ثوان وانتهى الأمر، بل استمرار لتمييز كان يطالها قبل الزلزال، وازدادت حدته بعد هذه الأزمة. يمكن أن نلحظ هذا الأمر في أبسط التفاصيل، فمثلا، عقب توزيع المساعدات الإنسانية، العديد من المتطوعين قاموا باقتناء علب السجائر، علها تخفف من وقع الصدمة عند الرجال، لكن هذا التفكير غلبت عليه النزعة الذكورية لهؤلاء، إذ أن النساء لم يتوصلن بأبسط احتياجاتهن اليومية إذا استثنينا بعض المبادرات المعدودة.
أزمة زلزال الحوز أبانت بشكل لا يدع مجالا للشك، أن الفجوة بين الجنسين، لازالت قائمة، بل وبحدة أكثر في المناطق المنكوبة لأسباب يطول شرحها، لكنها واضحة.
المشكلة الأكبر هي أننها نعتقد أن تأثير الأزمات يكون متساويا علينا كجنسين، وهو أمر خاطئ تماما، لأنه يكون مضاعفا على النساء، ولا ينتهي بانتهاء حالة الطوارئ كما يعتقد البعض، وذلك ما يؤكده تقرير لأمانة الأمم المتحدة للاستراتيجية الدولية للحد من أخطار الكوارث، بعنوان “مراعاة النوع الاجتماعي في الحد من المخاطر”، حيث يشير إلى أن الكوارث يمكن أن تزيد من فجوة المساواة بين الجنسين وتعمقها، مما يؤدي إلى تفاقم الظروف السيئة للنساء بشكل خاص. ومع ذلك، غالبا ما يتجاهل الجهود التي تبذلها النساء في التصدي لمخاطر الكوارث، وكذلك القيادة النسائية في بناء قدرة المجتمعات على التعامل معها.
كما يشير التقرير إلى أهمية اعتماد منظور النوع الاجتماعي في التعامل مع أخطار الكوارث، وذلك بدلاً من التركيز فقط على الأثر النسائي، حيث يجب تحليل الأدوار والعلاقات بين الجنسين في سياقاتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
زلزال الحوز، فرصة للتصحيح
في أمزميز، وعلى غرار المناطق المنكوبة جراء الزلزال، تم التعامل مع متطلبات النساء على أنها رفاهية، كالفوط الصحية والخدمات الجنسية، ولم يتم توفير دورات مياه غير مختلطة ومضاءة وآمنة بما فيه الكفاية، ما اضطر عددا من النساء إلى استخدام حمامات عامة، لا يجدن فيها أي نوع من الراحة. ويشير تقرير لصندوق الأمم المتحدة أن عدد الأشخاص الذين تأثروا جراء زلزال الثامن من شتنبر، يقدر بحوالي 300 ألف شخص، “من بينهم أكثر من 1500 امرأة حامل من المنتظر ولادتهن خلال الأشهر الثلاثة المقبلة. ومع تضرر المستشفيات والمرافق الطبية الأخرى أو تدميرها في القرى المنكوبة بفعل الزلزال، فإن التوقعات بالنسبة لهؤلاء النساء تفيد بأن ما ينتظرهن من مصير يمكن أن يتحول بسهولة إلى وضع يودي بحياتهن، خاصة إذا واجهن مضاعفات أثناء الحمل أو الولادة.”
أمام هذه المعطيات، وفي ظل عدم توفر إحصائيات حديثة، بخصوص النساء المذكورات، يبقى ما انتهى إليه مصيرهن مجهولا، فلا ندري كم منهن استطعن النجاة بأنفسهن، أو بتعبير آخر، هل تم توفير الرعاية الصحية اللازمة من أجل إنقاذ حياتهن وأطفالهن؟
حتى قبل الزلزال، كانت معاناة النساء في هذه المناطق واضحة، وذلك يعود أساسا للفجوة القائمة بين الجنسين، والتفكير الذكوري السائد والراسخ، أما بعد أعنف زلزال في تاريخ المغرب الحديث، فقد تأكدت الصورة بوضوح تام، حيث تبدى الانعدام في الحميمية بالنسبة للنساء كأحد التحديات الأكثر تأثيرا. ليبقى التحدي أمامنا لنتجاوز هذا الواقع المؤلم، لبناء مجتمع يتمتع بالتوازن والتضامن والمساواة، فالحاجة ملحة لتوجيه جهودنا نحو إحداث تغييرات جذرية في البنى الاجتماعية والثقافية التي تحمل على عاتقها تكريس الحماية والدعم للنساء. يجب علينا أن نستثمر في تعزيز الوعي والتثقيف حول حقوق المرأة وقضايا النوع الاجتماعي، وضمان تمكين المرأة اقتصاديا واجتماعيا. إن رحلتنا نحو بناء مجتمع يعتبر المساواة بين الجنسين قيمة أساسية، يجب أن نستثمر فيها زلزال الحوز، كأزمة عرت عن واقع لابد له من تغيير عاجل.
انجز هذا المحتوى في اطار – أكاديمية “النوع والاعلام”، المنظمة من طرف جمعية مبادرات مواطنة – بوصلة في إطار مشروع SaMMa، بشراكة مع ERIM International، Femmes en Communication، تحالف إصرار للتمكين و المساواة، جمعية جسور المواطنة – Ajc، بتمويل من الوكالة الفرنسية للتنمية.
الآراء الواردة في هذا المحتوى لا تمثل بالضرورة وجهة نظر جمعية مبادرات مواطنة-بوصلة- وشركائها في مشروع SaMMa